فصل: تفسير الآية رقم (143):

صباحاً 4 :30
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (143):

{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، واصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: «عدلا». قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي التنزيل: {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم وخيرهم.
وقال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

آخر:
أنتم أوسط حي علموا ** بصغير الامر أو إحدى الكبر

وقال آخر:
لا تذهبن في الأمور فرطا ** لا تسألن إن سألت شططا

وكن من الناس جميعا وسطا

ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
وفي الحديث: «خير الأمور أوسطها». وفيه عن علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل. وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شي. والوسط بسكون السين الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.
الثانية: قوله تعالى: {لِتَكُونُوا} نصب بلام كي، أي لان تكونوا. {شُهَداءَ} خبر كان. {عَلَى النَّاسِ} أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...}». وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: «فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}- والوسط العدل- لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا». قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه جنة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: «وجبت وجبت وجبت». ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: «وجبت وجبت وجبت». فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: «وجبت وجبت وجبت؟» فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض». أخرجه البخاري بمعناه.
وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس». خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول.
الثالثة: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: «نحن الآخرون الأولون». وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الامة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه.
قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة.
وقيل: {عَلَيْكُمْ} بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالايمان.
وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.
قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله: {كُنْتَ عَلَيْها}.
وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت ألان عليها، كما تقدم، وكما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.
قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى: {لِنَعْلَمَ} لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} بمعنى ألم تعلم.
وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها.
وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس.
وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد.
وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني» الحديث. والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: {ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري {إلا ليعلم} فـ {من} في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. {يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قال: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.
قوله تعالى: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} ذهب الفراء إلى أن {إن} واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت.
وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما قال تعالى: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ}.
قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم. وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الايمان.
وقال محمد بن إسحاق: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.
وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} قال: صلاتكم.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} الرأفة أشد من الرحمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {لرؤف} على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه ** يقاتل عمه الرءوف الرحيم

وحكى الكسائي أن لغة بني أسد {لرأف}، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {لرؤف} مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.

.تفسير الآية رقم (144):

{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ}. ومعنى: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى: {تَرْضاها} تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}.
وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}. وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله.
قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَوَلِّ} أمر {وَجْهَكَ شَطْرَ} أي ناحية {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس.
وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس.
قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».
الثانية: قوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به، وأيضا فإن الفعل واقع فيه.
وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود {فول وجهك تلقاء المسجد الحرام}.
وقال الشاعر:
أقول لأمّ زنباع أقيمي ** صدور العيس شطر بني تميم

وقال آخر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ** هول له ظلم يغشاكم قطعا

وقال آخر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ** وما تغني الرسالة شطر عمرو

وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: «الطهور شطر الايمان». ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر بالضم شطارة فيهما. وسيل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه.
الثالثة: لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد.
الرابعة: واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} يعني من الأرض من شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت.
الخامسة: في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده.
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده.
وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يريد اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما- أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به.
الثاني- أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه. وقراء ابن عامر وحمزة والكسائي {تعملون} بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.